فصل: مقام أعرابيّ بين يدي سليمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأخبار ***


الكِبَر والمشيب

للنبى صلى الله عليه وسلم حدثني أبو الخطاب قال‏:‏ حدّثنا أبو داود عن عبد الجليل بن عطية عن شَهْر بن حَوْشَب عن عمرو بن عَنْبَسَة قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏مَنْ شابَ شَيبةً في الإسلام كانت له نورًا يومَ القيامة ما لم يَخضبْها أو يَنتِفْها‏"‏‏.‏

في الكِبَر أبو حاتم عن الأصمعي عن شيخ من بني فَزارة قال‏:‏ مررتُ بالبادية وإذا شيخٌ قاعد على شفِيرِ قبرٍ، وإذا في القبور رجالٌ كأنهم الرماحُ يدفِنُون رجُلًا والشيخُ يقول‏:‏

احثُوا على الدَيسَم من بَرْد الثرى *** قِدْمًا أبَى ربك إلا مـا تَـرَى

فقلت له‏:‏ مَن الميتُ‏؟‏ فقال‏:‏ إبني‏.‏ فقلت له‏:‏ مَن الذين يَدفِنونه‏؟‏ قال‏:‏ بنوه‏.‏

بين يونس بن حبيب ورجل حدثنا أبو عبد الرحمن قال‏:‏ دخل يونس بن حبيب المسجدَ يُهادى بين اثنين من الكبر فقال له رجلٌ كان يَتَّهِمه على مودّته‏:‏ بلغتَ ما أرى يا أبا عبد الرحمن‏!‏ قال‏:‏ هو ما تَرَى فلا بَلَغْتَه‏.‏ ونحوه قولُ الشاعر‏:‏

يا عائبَ الشيبِ لا بَلَغْتَه

من الزبور ويقال في الزبور‏:‏ ‏"‏من بلغ السبعينَ اشتكَى من غير عِلة‏"‏‏.‏

لمحمد بن حسان النبطي وقال محمد بن حسّان النبطِي‏:‏ لا تسأل نفسَك العامَ ما أعطتك في العام الماضي‏.‏

لضرار بن عمرو الضبّيّ رأى ضرار بن عمرو الضبيّ له ثلاثةَ عشر ذكرًا قد بلغوا فقال‏:‏ من سرّه بنوه ساءته نفسه شعر لابن أبي فنن قال ابن أبي فَنَنٍ‏:‏

من عاش أخلقت الأيام جِدّتَه *** وخانه الثِّقتانِ السمعُ والبصرُ

قالت عَهِدتُك مجنونًا فقلت لها *** إن الشبابَ جنونٌ برؤه الكِبَرُ

لشيخ معمّر أبوعبيدة قال‏:‏ قيل لشيخ‏:‏ ما بَقِي منك‏؟‏ قال‏:‏ يسبِقُني مَنْ بين يدَي، ويُدرِكني خلفي، وأنسى الحديثَ، وأذكر القديمَ، وأنعُسُ في الملا، وأسهَرُ في الخلا، وإذا قمتُ قربت الأرضُ منّي، وإذا قعدتُ تباعدتْ عني‏.‏

لشاعر في الكِبر قال الشاعر‏:‏

قالت عَهِدتك مجنونًا فقلتُ لها *** إن الشبابَ جنون برؤه الكِبرُ

بين عبد الملك بن مروان والعريان بن الهيثم

قال عبد الملك بن مروان للعُريان بن الهَيثم‏:‏ كيف تَجدك‏؟‏ قال‏:‏ أجِدُني قد ابيض مني ما كنتُ أحب أن يسود، واسودّ منّي ما كنتُ أحبّ أن يبيَضّ واشتدّ منّي ما أحب أن يلين ولان ما أحِبّ أن يشتد وقال‏:‏

سَلْنِي أنَبئْكَ بآياتِ الكِبَرْ *** نومُ الـــــــعِـــــــشـــــــاء وسُـــــــعَـــــــال بــــــــالـــــــــــــــســـــــــــــــحـــــــــــــــرْ

وقِـــــــلّةُ الـــــــنـــــــوم إذا الــــــــلـــــــــــــــيلُ اعـــــــــــــــتـــــــــــــــكَـــــــــــــــرْ *** وقِـــــــفةُ الـــــــطــــــــــــــعـــــــــــــــم إذا الـــــــــــــــزادً حـــــــــــــــضَـــــــــــــــرْ

وســـــــرعةُ الـــــــطـــــــرفِ وتَـــــــحـــــــمـــــــيجُ الــــــــــــــنـــــــــــــــظـــــــــــــــر *** وتـــــــركًـــــــكَ الـــــــحـــــــســـــــنـــــــاءَ فـــــــي قُـــــــبْـــــــل الـــــــطـــــــهُـــــــــرْ

والـــــــنـــــــاس يَبْـــــــلَـــــــون كـــــــمـــــــا تَـــــــبـــــــلَـــــــى الـــــــشَّـــــــجَـــــــــرْ ***

شعر لحميد بن ثور، وغيره وقال حميد بن ثور‏:‏

أرى بصري قد رابني بعد صحّة *** وحَسْبُك داءً أن تصِح وتَسلمـا

وقال الكميتُ‏:‏

لا تَغبط المـرءَ أن يُقـالَ لـه *** أمسى فلانٌ لِسِنَـه حَـكَـمـا

إن سرهَ طولُ عمره فلقد أضحَى *** على الوجه طولُ ما سَـلـمـا

للنًمر بن تَوْلب‏:‏

يَود الفتى طولَ السلامة والغنَى *** فكيف تُرى طولَ السلامةِ يَفعَلُ

وقال آخر‏:‏

كانت قناتي لا تَلينُ لغـامـز *** فألانها الإصباحُ والإمسـاءُ

ودعوتُ ربي بالسلامة جاهدًا *** ليُصِحنِي فإذا السّـلامةُ داءُ

وقال أبو العتاهية‏:‏

أسرعَ في نقص امرىءٍ تمامُهُ

وقال عبد الحميد الكاتب‏:‏

ترحل ما ليس بالـقـافـل *** وأعقب ما لـيس بـالآئِل

فلهفي من الخلَف النـازل *** ولهفي على السلف الراحل

أبكَي على ذا وأبكـي لـذا *** بكاءَ المولًـهة الـثـاكـل

تُبَكَي من ابن لها قـاطـعٍ *** وتَبْكي على ابن لها واصل

تقضت غَواياتُ لسُكر الصبا *** وردً التَقَى عَنَدَ البـاطـل

كتاب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم وشعر للحجاج بن يوسف التيمي محمد بن سلاّم الجُمحِيّ عن عبد القاهر بن السري قال‏:‏ كتب الحجاج إلى قتيبة مسلم‏:‏ إني نظرتُ في سنَك فوجدتُك لِدَتي وقد بلغت الخمسين وإن امرًا سار إلى خمسين عامًا لقريب منه‏.‏ فسمع به الحجاج بن يوسف التيمي فقال‏:‏

إذا كانت السبعون سِنك لـم يكـن *** لدائك إلا أن تـمـوت طـبـيبُ

وإن امرًا قد سار سبعـين حِـجة *** إلى منهل مـن وِرْده لـقـريبُ

إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا تقـل *** خلوتُ ولكن قل عـلـي رقـيبُ

إذا ما انقضى القَرْن الذي أنت منهُم *** وخُلفتَ في قَرْنٍ فأنـت غـريبُ

شعرللبيد وقال لبيد‏:‏

أليس ورائي إن تراخت منـيتـي *** لزومُ العصا تُحنَى عليها الأصابعُ

أخبر أخبارَ القرونِ التي مضـت *** أدِب كأني كلما قـمـتُ راكـعُ

مثله لآخر وقال آخر في مثله‏:‏

حنتني حانيات الدهر حتْى *** كأني خَاتِلٌ يدنو لصـيد

لرجل من الحكماء وشعر لبعضهم وقيل لرجل مِن الحكماء‏:‏ ما لك تُدْمِنُ إمساكَ العصا ولستَ بكبيرٍ ولا مريض‏.‏ فقال‏:‏ لأذكرَ أني مسافر‏.‏

قال الشاعر‏:‏

حملتُ العصا لا الضعفُ أوجبَ حملَها *** علي ولا أني تحنـيتُ مِـن كِـبَـرْ

ولكنني ألزمتُ نفسـيَ حـمـلـهـا *** لأعلِمَها أن المقيمَ عـلـى سَـفَـرْ

بين شيخ من العرب وغلام ومرَّ شيخ من العرب بغلامٍ فقال له الغلام‏:‏ أحْصَدْتَ يا عمّاه فقال‏:‏ يا بنيّ وتُحتَصَدون‏.‏

موعظة للحسن قال الحسنُ في موعظة له‏:‏ يا معشر الشيوخ، الزرعُ إذا بلغ ما يُصنَع به‏.‏ قالوا‏:‏ يُحصد‏.‏

يا معشر الشباب كم من زرع لم يبلغ أدركته آفةٌ‏.‏ قال الشاعر‏:‏

الدّهر أبلاني وما أبلـيتُـه *** والدهرُ غيّرني وما يَتَغـيرُ

والدّهر قيّدني بخيطٍ مبـرَمٍ *** فمشيتُ فيه وكلّ يومٍ يَقصُرً

لعمارة بن عقيل وقال عُمَارة بن عَقِيل‏:‏

وأدركتُ مِلءَ الأرض ناسًا فأصبحوا *** كأهل الديار قوَضوا فتحـمًـلـوا

وما نحن إلا رُفقةَ قـد تـرحَـلـت *** وأخرَى تُقَضَي حاجَهـا وتَـرَحَـلً

لأعرابي يذكر الشيب ذكر أعرابي الشيبَ فقال‏:‏ واللّه لقد كنتُ انكر الشعرةَ البيضاء فقد صرتُ أنكر السوداء، فيا خير بَدَلٍ ويا شرَّ مبدول‏.‏

لبعض الشعراء في الشيب وقال بعض الشعراء‏:‏

شاب رأسي وما رأيتُ مشيبَ ال *** رأس إلا من فضل شَيب الفؤادِ

وكذاك القلوب في كـل بـؤسٍ *** ونـعـيمٍ طـلائعُ الأجـسـادِ

طال إنكاريَ البياضَ فـإن عُـم *** رت شيئًا أنكرتُ لونَ السـوادِ

لإياس بن قتادة في الشيب رأى إياس بن قَتادة شَعرة بيضاءَ في لحيته، فقال‏:‏ أرى الموتَ يطلبني وأراني لا أفوته، أعِوذ بك يا ربّ من فُجَاءاتِ الأمور، يا بني سعد قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبتي، ولزم بيته‏.‏

أقوال في الشيب قال قيس بن عاصم‏:‏ الشيب خِطام المنية‏.‏

قال آخر‏:‏ الشيبُ بريدُ الحِمام‏.‏

قال آخر‏:‏ الشيب تَوْأم الموت‏.‏

قال آخر‏:‏ الشيب تاريخ الموت‏.‏

قال آخر‏:‏ الشيب أوّل مراحل الموت‏.‏

قال آخر‏:‏ الشَّيب تمهيد الحمام‏.‏

قال آخر‏:‏ الشيب عنوان الكِبَر‏.‏

قال عَبِيدُ بن الأبرص‏:‏

والشَّيْبُ شينٌ لمن يشيب

ويقال‏:‏ شَيْب الشَعرَ موتُ الشَّعَر، وموتُ الشعَرِ عِلَّةُ موتِ البشر‏.‏

قال الشاعر‏:‏

وكان الشباب الغضُ لي فيه لذةٌ *** فوقَّرني عنه المشـيبُ وأدبـا

فسَقْيًا ورَعيًا للشبابِ الذي مضى *** وأهلًا وسهلًا بالمشيب ومرحبَا

وقال أعرابي - ويقال هي لأبي دُلَفَ‏:‏

في كـل يوم مـن الأيام نـابــتةٌ *** كأنما نبتَتْ فيه علـى بَـصَـري

لئن قَرَضتكِ بالمقراض عن بصري *** لما قرضتُكِ عن همَي ولا فِكَري

وقال أعرابيّ‏:‏

أرَى الشيبَ مذ جاوزتُ خمسين دائبًا *** يَدِت دبيبَ الصبح في غَسَق الظلَمْ

هو السـم إلا أنـه غـيرُ مُـؤلـمٍ *** ولم أر مثلَ الشيب سُمًا بـلا ألَـمْ

وقال آخر‏:‏

قَصَرالحوادِثُ خطوَه فـتـدانَـى *** وحَنَيْنَ صدرَ قَناتِه فـتـحَـانَـى

صحِبَ الزمانَ على اختلاف فُنُونه *** فأراه مـنـه شِـدة ولَـيَانَــا

ما بالُ شيخٍ قدتـخـدد لـحـمُـه *** أنضَى ثلاثَ عـمـائم ألـوانَـا

سوداءَ داجية وسَحـقَ مُـفَـوفٍ *** وأجد أخرى بعد ذاك هِـجَـانَـا

ثم الممـاتُ وراء ذلـك كـلَـهِ *** وكأنما يُعْـنَـى بـذاك سِـوانَـا

وقال آخر يذكر الشبابَ‏:‏

لما مضى ظاعِنًا عنـا فـودعـنـا *** وكان كالميْتِ لم يترك له عَـقِـبَـا

عُدنا إلى حالة لا نستـطـيعُ لـهـا *** وصلَ الغَوانِي وعابَ الشيبَ مَنْ لَعِبا

شعر لمحمود الوراق وقال محمود الوراق‏:‏

بكيتُ لقُرب الأجلْ *** وبُعْدِ فوات الأملْ

ووافدِ شيب طـرا *** بعُقْب شباب رَحَلْ

شبَاب كأن لم يكـن *** وشيب كأن لًم يَزَلْ

طَوَاكَ بشيرُ البـقـا *** وجاء بشيرُ الأجَـلْ

طَوَى صاحب صاحبًا *** كذاك انتقال الـدوَلْ

لأبي الأسود يذم الشباب وقال أبو الأسود يذم الشبابَ‏:‏

غدا منك أسبابُ الشبابِ فأسرعا *** وكان كجارٍ بان يومًا فـودعَـا

فقلت له فاذهَبْ ذميمًا فليتَـنِـي *** قتلتُك عِلمًا قبل أن تتصـدعَـا

جنيتَ علي الذنبَ ثم خذلتَـنـي *** عليه فبئسَ الخلتانِ هُمَا مـعَـا

وكنتَ سَرابًا ما ضَحَا إذ تركتَني *** رَهِينةَ ما أجني من الشر أجمعَا

وقال آخر‏:‏

استنكرتْ شيبي فقلتُ لـهـا *** ليس المشيب بناقص عُمْرِي

وتَنفَسَتْ بي هِمة وصـلَـتْ *** أملي بكل رفيعةِ الـذَكـر

لعمر بن الخطاب في الخضاب روى عبد الله بن حَفْص الطاحِي عن زكريا بن يحيى بن نافع الأزدي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ اخْضِبُوا بالسواد، فإنه أنْسٌ للنساء وهَيبةٌ للعدو‏.‏

شعر لعمر بن المبارك الخزاعي قال عمرُ بن المبارك الخزاعي‏:‏

مَنْ لاِذنِـي بـمَـلام *** ولكَـفـي بـمُـدَام

عَقَّ عظمُ الجْهل مني *** وانثنَى شَن عُرَامي

وتمشى الفَذ من شَي *** بي إلى الشَيب التؤام

نَظْمَكَ الذر إلى الدرة *** في سِلكِ النَـظـاَم

شعر لأبي العتاهية وقال أبو العتاهيةِ‏:‏

نعَى لك ظل الشبابِ المشـيب *** ونادتْك باسم سِواك الخطُـوبُ

فكن مُستعدًا لداعي المـنـون *** فكل الذنىِ هـو أت قَـرِيبُ

وقبلكَ داوَى المريضَ الطبيبُ *** فعاشَ المريضُ ومات الطبيبُ

يَخافُ على نفسه مَـنْ يتـوبُ *** فكيف ترى حال مَن لا يتوبُ

ليونس بن حبيب محمد بن سلام قال‏:‏ سمعتُ يونسَ بن حبيب يقول‏:‏ لا يأمنُ مَنْ قطع في خمسةِ دراهم خيرَ عُضوٍ منك أن يكون عقابه هكذا غدًا‏.‏

الدنيا

للنبي صلى الله عليه وسلم حدّثني أبو مسعود الدارمي قال‏:‏ حدّثنيِ جدّي خِراش عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ أصبحت الدنيا همه وسدمه نزَع اللهّ الغِنَى من قلبه، وصير الفقَر بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتبَ له، ومن أصبحتِ الآخرةُ همَّه وسدمه نزعَ اللُه الفقرَ من قلبه وصَير الغِنَى بين عينيه وأتته الدنيا وهي راغِمة‏"‏‏.‏

بين النبي صلى الله عليه وسلم والضحّاك بن سفيان حدّثني محمد بن داود قال‏:‏ حدّثنا أبو الربيع عن حمّاد عن علي بن زيد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للضحّاك بن سفيان‏:‏ ‏"‏ما طعَامكَ‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ اللحمُ واللبنُ‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ثم يصير إلىِ ماذا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم يصيرُ إلى ما قد عَلمتَ‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإنّ اللهّ ضربَ ما يخرجُ من ابن آدم مثلاَ للدنيا‏"‏‏.‏

لبشير بن كعب في الدنيا قال‏:‏ وكان بشيرُ بنُ كعبٍ يقول لأصحابه إذا فرغ من حديثه‏:‏ انطلقوا حتى أرِيَكم الدنيا‏.‏ فيجيءُ فيقفُ بهم على السُّوقِ، وهي يومئذ مَزْبَلَةٌ، فيقول‏:‏ أنظروا إلى عَسَلهم وسَمْنِهم وإلى دجَاجهم وبطهم صار إلى ما تَروْن‏.‏

للنبي صلى الله عليه وسلم حدّثني هارون بن موسى قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعيد القُزويني عن عمرو بن أبي قيس عن هارون بن عنترة عن عمرو بن مرة قال‏:‏ سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قول اللّه‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يُرِدِ الله أنْ يهِديَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلاَم‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏إذا دخل النورُ القلبَ وانفسحَ شُرِح لذلك الصدرُ‏"‏، قالوا‏:‏ يا نبيّ الله هل لذلكَ آَيةٌ يُعرَفُ بها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم الإنابَةُ إلى دار الخلود والتَجافِي عن دار الغرور والاستعدادُ للموت قبل نُزول الموتِ‏"‏‏.‏

لوهب بن منبه

بلغني عن العُتبي عن حبيب العَدوي عن وهب بن منبه قال‏:‏ رأينا ورقةً يَهفُو بها الريحُ تأرسلْنا بعضَ الفِتيانِ فأتانا لها فإذا فيها‏:‏ الدنيا دار لا يُسلَمُ منها إلا فيها، ما أخذَ أهلُها منها لها خرجوا منه ثم حُوسِبوا به، وما أخَذَ منها أهلُها لغيرها خرجوا منه ثم أقاموا فيه، وكأن قومًا من أهل الدنيا ليسوا من أهلها،، هم فيها كمن ليس فيها، عمِلوا بما يُبصِرون وبادَرُوا ما يحذَرون، تتقلّبُ أجسادُهم بين ظهَرانَيْ أهل الدنيا، وتتقلّبُ قلوبهم بين ظهرانَيْ أهل الآخرة، يَروْن الناس يُعظّمون وفاةَ أجسامهم وهم أشدُ تعظيمًا لموت قلوب أحيائهم‏.‏ فسألت عن الكلام فلم أجد يعرفه‏.‏

للمسيح عليه السلام وقال المسيح عليه السلام‏:‏ الدنيا قنطرةٌ فاعبُرُوها ولا تعمُرُوها‏.‏

ما أوحى به اللّه تعالى إلى الدنيا وفي بعض الكتب‏:‏ أن اللّه تعالى أوحى إلى الدنيا‏:‏ ‏"‏مَنْ خَدمَني فاخدُمِيه، ومَنْ خَدَمك فاستخْدِميه‏.‏

لبعض العابدين يذكر الدنيا قال بعضُ العابدين يَذكُر الدنيا‏:‏

لقد غَرت الدنيا رجالًا فأصبحوا *** بمنزلةٍ ما بعدها مُـتـحَـوًلُ

فساخِطُ أمرٍ لا يُبَـدَلُ غـيرَه *** وراض بأمرٍ غيرَه سَـيُبـدَل

وبالغُ أمرٍ كـان يأمُـلُ دونـه *** ومختَلَجٌ من دون ما كان يأمُلُ

وقال آخرُ يذكر الدنيا‏:‏

حُتوفُها رَصَد وعيشُها رَنق *** وكَرُّها نَكدٌ ومُلْكُهَا عُوَلُ

وقال آخر‏:‏

نراعُ لذكر الموت ساعةَ ذكره *** وتَعْتَرِض الدنيا فنلهو ونلعـبُ

ونحن بنو الدنيا خُلِقنا لغـيرهـا *** وما كنتَ منه فهو شيء مُحبًبُ

ليحيى بن خالد وقال يحيى بن خالد‏:‏ دخلنا في الدنيا دُخولًا أخرجَنَا منها‏.‏

لعلي بن أبي طالب في يصف الدنيا ذم رجلٌ الدنيا عند على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال علي عليه السلام‏:‏ الدنيا دار صِدقٍ لمن صَدّقها، ودارُ نَجاة لمن فَهِم عنها، ودارُ غِنًى لمن تَزود منها، مَهْبِطُ وحي الله، ومصلَى ملائكته، ومَسجِدُ أنبيائه، ومَتْجَرُ أوليائه، رَبِحُوا منها الرحمَةَ واحْتسَبُوا فيها الجنةَ؛ فمن ذا يذمها وقد آذَنَتْ ببينها ونادَتْ بفِراقها وشَبهَتْ بسرُورها السّرورَ وببلائها البلاءَ ترغيبًا وترهيبًا؛ فيا أيها الذامُّ الدنيا المعلّلُ نفسَه، متى خَدَعَتْك الدنيا أم متى استذمت إليكَ‏!‏ أبمصارع آبائك في البِلَى‏!‏ أم بمضاجع أمهاتك في الثرى‏!‏ كم مَرضتَ بيديك، وعًللتَ بكفّيك، تطلبُ له لشفاء، وتستوصفُ له الأطباءَ، غداة لا يُغني عنه دواؤك، ولا ينفعك بكاؤك‏.‏

شعر لإبراهيم بن أدهم العجلي كان إبراهيم بن أدهم العِجلي يقول‏:‏

نُرَقَع دنيانا بتَمزِيق دينـنـا *** فلا ديننا يبقَى ولا ما نُرَقَعُ

لأبي حازم في الدنيا قال أبو حازم‏:‏ وما الدنيا‏!‏ أما ما مضى فحُلْمٌ وأما ما بقي فَأمانيٌ‏.‏

لسفيان فيما أوحى به الله لنبي من أنبيائه قال سفيانُ‏:‏ أوحى اللّه تعالى إلى نبيّ من الأنبياء‏"‏اتخِذِ الدنيا ظِئْرًا والآخرَة أمًا‏"‏‏.‏

للشعبي قال الشعبيّ‏:‏ ما أعلمُ لنا وللدنيا مَثلًا إلا ما قال كُثَيِّرٌ‏:‏

أسيئي بنا أو أحسِني لا مَلُومَة *** لَدَيْنَا ولا مَقليةٌ إن تَقـلًـتِ

لبكر بن عبد اللّه قال بكر بن عبد الله‏:‏ المستغني عن الدنيا بالدنيا كالمطفئ النارَ بالتِّبْنِ‏.‏

لابن مسعود قال ابن مسعود‏:‏ الدنيا كلّها غمومٌ، فما كان فيها مِن سرورٍ فهو ربح‏.‏

لمحمد بن الحنفية قال محمد بن الحنفية‏:‏ مَنْ كَرُمَتْ عليه نفسُه هانت عليه الدنيا‏.‏

في الدنيا والآخرة وقال بعضُ الحكماء‏:‏ مَثَلُ الدنيا والآخرةِ مَثَلُ رجل له ضَرتان إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى‏.‏

قال سفيان‏:‏ ترك لكم الملوكُ الحكمةَ فَاترُكوا لهم الدنيا‏.‏

وقال آخر‏:‏ إن الدنيا قد استودَقَتْ وأنعظَ الناسُ‏.‏

قال وُهَيبُ بن الورد‏:‏ مَنْ أرادَ الدنيا فَلْيتهيأ للذل‏.‏

قيل لمحمد بن واسع‏:‏ إنك لَترضَى بالدون؛ فقال‏:‏ إنما رِضيَ بالدُونِ مَنْ رضي بالدنيا‏.‏

قيل لعليّ بن الحسين‏:‏ مَنْ أعظمُ الناس خَطَرًا‏.‏ فقال‏:‏ مَنْ لم ير الدنيا خطَرًا لنفسه‏.‏

كان يقال‏:‏ لأنْ تُطلَبَ الدنيا بأقبح ما تُطلَبُ به الدنيا أحسنُ مِنْ أن تُطلَبَ بأحسنِ ما تُطلَبُ به الآخرة‏.‏

قالتِ امرأةٌ لبعلها ورأته مهمومًا‏:‏ مم هَمكَ‏؟‏ أبالدنيا فقد فرغ الله منها أم بالاخرة فزادك الله همًا‏.‏

للمسيح في حب الدنيا الثوري قال‏:‏ قال المسيحُ‏:‏ حبُ الدنيا أصلُ كلً خطيئةٍ والمالُ فيها داءٌ كثير؛ قيل‏:‏ ما داؤه‏؟‏ قال‏:‏ لا يَسلمُ صاحبه من الفخر والكبر؛ قيل‏:‏ وإن سَلم‏؟‏ قال‏:‏ يَشْغَلُه إصلاحُه عن ذكر الله‏.‏

لبأي الدرداء يخاطب أهل حمص بلغني عن محمد بن فُضَيل قال‏:‏ حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن أبي الدرداء قال‏:‏ يا أهل حِمْصَ، ما لي أراكم تجمعونَ كثيرًا، وتبنُونَ شَديدًا، وتأمُلُون بعيدًا إن مَنْ قبلكم جمعوا كثيرًا وبَنَوْا شديدًا وأمَلوا بعيدًا فصار جمعهم بُورًا وصارتْ مساكنُهم قبورًا وأملُهم غُرورًا‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ يا أهل دمشق، ما لكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأمُلُون ما لا تدركون‏!‏ ألا إن عادًا وثمودَ كانوا قد ملأوا ما بين بُصَرى وعَدَن أموالًا وأولادًا ونَعَمًا، فمنْ يَشتَرِي مِني ما تركوا بدرهمين‏!‏ لعبد الواحد بن الخطاب بلغني عن داود بن المحبر عن عبد الواحد بن الخطّاب قال‏:‏ أقبلنَا قافلين من بلاد الروم نُريدُ البصرةَ، حتى إذا كنا بين الرصَافة وحمص سمعنا صائحًا يصيحً من بين تلك الرمال - سَمِعته الاذانُ ولم تَرَهُ العيون - يقول‏:‏ يا مستورُ يا محفوظُ‏!‏ أعْقِلْ في سِتْر مَنْ أنتَ‏!‏ فإن كنتَ لا تعقِلُ مَنْ أنتَ فيِ ستْره فاتقِ الدنيا فإنها حِمَى الله؛ فإن كنتَ لا تعقِلُ كيف تتًقِيها فَصَيرْها شوكًا ثم انظر أين تضعُ قدميكَ منها‏.‏

للمأمون وشعر لأبي النواس في الدنيا قال المأمون‏:‏ لو سُئِلَت الدنيا عن نفسها ما أحسَنَتْ أن تصفَ نفسَها صِفَةَ أبي نُواسٍ في هذا البيت‏:‏

إذا اختَبَر الدنيا لَبِيب تكشَّفَتْ *** له عن عَدو في ثياب صَدِيقِ

للمسيح عليه السلام قال المسيحُ عليه السلام‏:‏ أنا الذي كَفَفتُ الدنيا على وجهها، فليسَتْ لي زوجة تموتُ ولا بيتٌ يَخرَبُ‏.‏

شعر لأبي العتاهية قال أبو العتاهية‏:‏

يا مَنْ ترفَّعَ للدُنـيا وزِينـتـهـا *** ليس الترفُّع رفعَ الطين بالطينِ

إذا أردت شريفَ الناس كُلَـهِـم *** فانظُر إلى مَلِكٍ في زِيَ مِسكينِ

شعر لآخر في الدنيا وقال آخر وذكر الدنيا‏:‏

إذا تَم أمر دنا نقصُـه *** توَقَعْ زوالًا إذا قيل تَم

وقال آخر‏:‏

لا تَبْكِ للدنيا ولا أهـلِـهـا *** وابِك ليوم تسكُنُ الحـافـرهْ

وابْكِ إذا صِيحَ بأهل الثـرى *** فاجتمَعوا فيً ساحة الساهِرَهْ

ويلك يا دنيا لقد قـصـرت *** آمال من يسكنـك الآخـرة

مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك

مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهديّ

قام فقال‏:‏ إنه لما سَهُلَ علينا ما توعَرَ علىِ غيرنا من الوصول إليك، قُمنا مَقَامَ الأداء عنهم وعن رسول اللة صلى الله عليه وسلم بإظهار ما في أعناقنا من فريضةِ الأمر والنهي عند انقطاع عُذر الكِتمان ولا سَيما حين اتسَمْتَ بِمَيسَم التواضع ووَعَدتَ الله وحَمَلَةَ كتابه إيثار الحق على ما سواه، فجمعنَا وإياكَ مَشْهد من مشاهد التمحيص لِيُتَمَ مُؤَدينا على موعود الأداء وقابِلُنَا على موعود القبول، أو يَزيدنا تَمحِيصُ الله إيانا في اختلاف السر والعلانية، ويُحَلَينا حِليةَ الكذابين، فقد كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ مَنْ حجب اللُه عنه العلم عذبه على الجهل، وأشَدُّ منه عذابًا مَنْ أقبل إليه العلمُ وأدبرَ عنه، ومن أهدى الله إليه علمًا فلم يعمَل به فقد رَغِبَ عن هديه الله وقصَر بها، فأقبل ما أهدَى الله إليكَ من ألسنتنا قبولَ تحقيقٍ وعمل لا قبولَ سمعةٍ ورياءٍ فإنه لا يعلَمك منَا إعلامٌ لما تَجهَلُ أو مواطأةٌ على ما تعلمُ أو تذكيرٌ من غفلةَ؛ فقد وطًنَ اللّه عز وجل نبيه عليه السلام على نزولها تعزية عما فات وتحصينًا من التمادي ودلالةً على المخرَج فقال‏:‏ ‏{‏وإما يَنْزَغنك مِن الشَيْطَانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللّه‏}‏ فأطْلِع الله على قلبكَ بما يُنَوٌرهُ من إيثار الحق ومًنَابذةِ الأهواء‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

مقام رجل من الزهّاد بين يدي المنصور

بينما المنصورُ يطوفُ ليلًا إذ سمع قائلًا يقول‏:‏ اللَهم إني أشكو إليكَ ظهورٍ البغي والفساد في الأرض وما يحولُ بين الحق وأهله من الطمع‏.‏ فخرج المنصورُ فجلس ناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى الرجلُ ركعتين واستلَم الركنَ وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة، فقال المنصورُ‏:‏ ما الذي سمعتُكَ تذكُر من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بينِ الحق وأهله من الطمع‏؟‏ فوالله لقد حَشَوْتَ مَسَامِعي ما أرمَضَنِي، قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتُك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزتُ منكَ واقتصرتُ على نفسي ففيها لي شاغِل‏.‏ فقال‏:‏ أنتَ آمنُ على نفسك فقل فقال‏:‏ إن النبي دخله الطمعُ حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنتَ‏.‏ قال‏:‏ ويحك وكيف يدخلُني الطمعُ والصفراءُ والببضاءُ في قبضتي والحلو والحامض عندي‏!‏ قال‏:‏ وهل دخل أحد من الطمع ما دخلكَ‏!‏ إن الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمينَ وأموالَهم فأغفلتَ أمورهم واهتممتَ بجمع أموالِهم، وجعلتَ بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجُر وأبوابًا من الحديد وحَجَبَةً معهم السلاحُ ثم سجنتَ نفسَكَ فيها عنهم، وبعثتَ عُمَالَكَ في جباية الأموال وجمعها وقويتَهم بالرجال والسلاح والكراع، وأمرتَ بألا يدخُلَ عليك من الناس إلا فلانٌ وفلان نفر سميتَهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري ولا الضعيفِ الفقير، ولا أحدٌ إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتَهم لنفسك وآثرتَهم على رعيتكَ وأمرتَ ألا يُحجَبُوا عنك، تَجْبي الأموال وتجمعها ولا تَقسِمُها قالوا‏:‏ هذا قد خان الله فما بالنا لا نخونه وقد سجن لنا نفسَه‏!‏ فَأتمروا بألا يصلَ إليك مِنْ علم أخبار الناس شيء؛ إلا ما أرادوا، ولا يخرجَ لك عاملٌ فيخالفَ أمرَهُم إلا قصبوه عندك ونَفَوْه حتى تسقطَ منزلتُه ويَصْغُر َقدرُه، فلما انتشر ذلكَ عنكَ وعهم، أعظمَهُم الناسُ وهابوهم، فكان أولَ مَنْ صانعَهم عُمالُكَ بالهدايا والأموال لِيَقْوَوْا بها على ظلم رعيتكَ، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلمَ من دونهم، فامتلأت بلادُ الله بالطمع بغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شُركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء مُتظلم حِيلَ بينه وبين دخول مدينتك؛ فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيتَ عن ذلكَ، وأوقفت للناس رجلًا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل فبلَغَ بطانَتَكَ خبرُه سألوا صاحبَ المظالم ألا يرفعَ مَظْلِمَتَه إليك، فإن المتظلَم منه له بهم حُرمة، فأجابهم خوفًا منهم؛ فلا يزال المظلومُ يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه، فإذا اجهِدَ واحرجَ وظَهَرْتَ، صَرَخ بين يديك، فضُرِبَ ضَرْبًا مُبَرّحًا، ليكون نكالًا لغيره، وأنت تَنظر فلا تُنكِر، فما بقاءُ الإسلام على هذا‏!‏ وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصَين فقدِمتها مرةً وقد أصِيبَ مَلِكُها بسمعه، فبكى يومًا بكاءً شديدًا فحثه جلساؤه على الصبر فقال‏:‏ أمَا إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرُخُ ولا أسمعُ صوتَه؛ ثم قال‏:‏ أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادُوا في الناس ألًا يلبَسَ ثوبًا أحمرَ إلا متظلمٌ، ثم كان يركب الفيل طرفَيْ نهاره، وينظر هل يرى مظلومًا‏.‏ فهذا يا أمير المؤمنين مُشركٌ بالله غلبتْ رأفتُه بالمشركين شُحَ

نفسه وأنت مؤمنٌ بالله من أهل بيت نبيه لا تغلب رأفتكَ بالمسلمين على شح نفسك‏!‏ فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عِبَرًا في الطفل يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزالُ الله يلطُفُ بذلك الطفل حتى تعظُمَ رغبةُ الناس إليه، ولست بالذي تُعطي بل الله يعطي من يشاء ما يشاء، وإن قلت إنما أجمع المال لتَشديد السلطان فقد أراك الله عِبَرًا في بني أميةَ‏:‏ ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وأعدوا من الرجال والسلاح والكُرَاع حتى أراد الله بكم ما أراد، وإن قلتَ إنما أجمع المالَ لطلب غايةٍ هي أجسمُ من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنتَ فيه إلا منزلةٌ لا تدرك، إلا بخلاف ما أنتَ عليه يا أميرَ المؤمنين؛ هل تُعاقب من عصاك بأشد من القتل‏؟‏ قال المنصور‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فكيف تصنع بالملكِ الذي خولك مُلكَ الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل‏!‏ ولكنَ بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقِدَ قلبك وعَمِلته جوارحُك ونظر إليه بصرُك واجترحته يداكَ ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شَحَحْتَ عليه من مُلك الدنيا إِذا انتزعَه من يدك ودعاكَ إلى الحساب‏.‏ فبكى المنصور وقال‏:‏ يا ليتني لم أخْلَقْ‏!‏ ويحكَ‏!‏ فكيف أحتال لنفسي قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم ويرضَوْن بهم فاجعلهم بطانَتك رشدوكَ، وشاورْهم في أمرك يُسددوك‏.‏ قال‏:‏ قد بعثت إليهم فهربوا مني‏.‏ قال‏:‏ خافوا أن تحمِلَهم على طريقتك ولكن إفتَحْ بابكَ وسَفَل حجابَك وانصُرِ المظلومَ واقمَعْ الظالمَ وخذ الفيء والصدقاتِ مما حل وطابَ واقسِمه بالحق والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويُسْعِدوك على صلاح الأمة‏.‏

وجاء المؤذَنون فسلموا عليه فصلى وعاد إلى مجلسه وطُلِبَ الرجلُ فلم يوجَدْ‏.‏

مقام آخر والمنصور يخطب

خَطبَ المنصورُ فحمِد الله ومضى في كلامه، فلما انتهى إلى أن أشهد أن لا إله إلا الله وثَبَ رجل من أقصى المسجد فقال‏:‏ أذَكرك مَنْ تذكرُ‏.‏ فقال المنصور‏:‏ سمعًا لمن فَهِم عن الله وذكرَ به وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عصيًا وأن تأخذني العزة بالإثم لقد ضَلَلْتُ إذًا وما أنا من المهتدين، وأنتَ واللِه أيها القائل ما أردتَ بها الله ولكن حاولتَ أن يقال‏:‏ قام فقال فعوقب فصَبَر، وأهوِنْ بقائلها لو هَمَمْت، فاهتَبِلها ويلكَ إذ عفوتُ، وإياكم معشرَ الناس وأختَها؛ فإن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا انبثتْ فردوا الأمر إلى أهله يُصْحِرُوه كما أورعوه‏.‏ ثم رجع إلى خطبته فقال‏:‏ وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه‏.‏

مقام عَمْرو بن عُبَيد بين يدي المنصور

قال للمنصور‏:‏ إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتَرِ نفسك ببعضها، واذكر ليلةً تَمَخضُ عن يوم لا ليلةَ بعده‏.‏ فوجَمَ أبو جعفر من قوله؛ فقال له الربيع‏:‏ يا عَمْرو غمَمْت أمير المؤمنين‏.‏

فقال عَمْرو‏:‏ إن هذا صَحِبك عشرين سنة لم يَرَ لك عليه أن يَنْصحَكَ يومًا واحدًا وما عَمِلَ وراءَ ذلك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ فما أصنع‏؟‏ قد قلتُ لكَ‏:‏ خاتمي في يدك فتعالَ وأصحابك فاكفِنِي‏.‏ قال عَمْرو‏:‏ ادعُنا بعدلك تسْخُ أنفسنا بعونك؛ ببابك ألف مَظلِمةٍ ارددْ منها شيئًا نعْلَمْ أنك صادق‏.‏

مقام أعرابيّ بين يدي سليمان

قام فقال‏:‏ إني مُكَلمكَ يا أميرَ المؤمنين بكلام فيه بعضُ الغِلظةِ فاحتَمِلْهُ إن كرهتَه، فإن وراءه ما تُحبه إن قلتَه‏.‏ قال‏:‏ هاتِ يا أعرابيٌ‏.‏ قال‏:‏ فإني سأطلِقُ لساني بما خَرِسَتْ عنه الألسُنُ، عِظَتكَ تأديةً لِحق الله وحق إمامتك، إنه قد اكتنفَكَ رجال أساءوا الاختيارَ لأنفسهم، فابتاعوا دنياكَ بدينهم ورِضَاكَ بسخط ربهم، خافوكَ في الله ولم يخافوا الله فيكَ، فهم حَرْبٌ للآخرة سلم للدنيا، فلا تأمَنْهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لن يألوا الأمانة تضييعًا والأمة عسفًا وخسفًا، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترَحْتَ، فلا تُصْلِحْ دنياهم بفساد آخرتكَ، فإن أعظم الناس غَبْنًا مَنْ باع آخرته بدنيا غيره‏.‏ قال سليمان‏:‏ أما أنت يا أعرابي فقد سلَلتَ لسانكَ، وهو أقطعُ سيفيكَ‏.‏ فقال‏:‏ أجلْ، لكَ لا عليكَ‏.‏

مقام أعرابيّ بين يدي هشام

قال‏:‏ أتتْ على الناس سِنُون، أما الأولى فَلَحَتِ اللحمَ، وأما الثانية فأكلتِ الشحْم، وأما الثالثة فهاضَتِ العظمَ، وعندكم فضولُ أموال، فإن كانت لله فاقسِموها بين عباده، وإن كانت لهم ففيمَ تُحظَرُ عنهم‏!‏ وإن كانت لكم فتصدقوا عليهم بها فإن الله يَجْزِي المتصدقين؛ فأمر هشام بمال فقُسِم بين الناس وأمرَ للأعرابي بمال، فقال‏:‏ أكل المسلمين له مثل هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا ولا يقوم ذلك بيتُ مال المسلمين؛ قال‏:‏ فلا حاجةَ لي فيما يبعثُ لائمةَ على الناس على أمير المؤمنين‏.‏

مقام الأوزاعيّ بين يدي المنصور

ذكره عبدُ الله بن المبارك عن رجل من أهل الشأم قال‏:‏ دخلتُ عليه فقال‏:‏ ما الذي بَطأ بك عني‏؟‏ قلتُ‏:‏ يا أميرَ المؤمنين وما الذي تريد مني‏؟‏ فقال‏:‏ الاقتباسُ منك‏.‏ قلتُ‏:‏ انظر ما تقول، فإن مكحولًا حدًثني عن عطية بن بَشيرٍ أنّ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ بلَغه عن اللّه نصيحةٌ في دينه فهي رحمة من الله سِيقَتْ إليه، فإن قَبِلَها من الله بشكرٍ وإلا كانتْ حُجّةً من الله عليه، ليزداد إثمًا، وليَزْدادَ الله عليه غضبًا، وإن بلغه شيء من الحق فرضِيَ فله الرضا، وإن سَخِط فله السخط، ومن كرهَه فقد كره الله، لأن الله هو الحق المبين‏"‏، فلا تجهَلَن‏.‏

قال‏:‏ وكيف أجهل‏؟‏ قال‏:‏ تسمع ولا تعمل بما تسمَعُ‏.‏

قال الأوزاعي‏:‏ فسل علي الربيعُ السيفَ وقال‏:‏ تقول لأمير المؤمنين هذا‏!‏ فانتهرَه المنصور وقال‏:‏ أمسِكْ‏.‏ ثم كلمه الأوزاعي، وكان في كلامه أن قال‏:‏ إنك قد أصبحت من هذهِ الخلافة بالذي أصبحت به، والله سَائَلُكَ عن صغيرها وكبيرها وفتيلها ونقيرها، ولقد حدثني عُروةُ بن رُوَيْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما مِنْ راعٍ يبيتُ غاشًّا لِرعيته إلا حًرّمَ الله عليه رائحةَ الجنةِ‏"‏فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرًا، ولمَا استطاع من عَوراتهم ساتِرًا، وبالقِسط فيما بينهم قائمًا، لا يتخوْف محسنُهم منه رهَقًا ولا مسيئهم عدوانًا؛ فقد كانت بيد رسول الله؛ جرب يستَاكُ بها ويردعُ عنه المنافقينَ، فأتاه جبريلُ فقال‏:‏ ‏"‏يا محمدُ ما هذه الجريدةُ بيدكَ‏!‏ إقذِفْها تملأ قلوبَهم رُعبًا‏!‏‏.‏ فكيف مَنْ سفكَ دماءهم وشَققَ أبشارهم وأنهبَ أموالهم‏!‏ يا أمير المؤمنين إنْ المغفورَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القِصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيًا يتعمده، فهبط جبريل فقال‏:‏ ‏"‏يا محمد إن الله لم يبعَثْكَ جبارًا تكسِرُ قرونَ أمَتك‏"‏‏.‏ واعلم كل ما في يدك لا يعدِلُ ضربةً منِ شراب الجنة ولا ثمرةً من ثمارها؛ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لَقَاب قوس أحدكم من الجنة أو قُذَة خيْرٌ له من الدنيا بأسرها‏"‏‏.‏ إن الدنيا تنقطِعُ ويزولُ نعيمها، ولو بقي الملكُ لمن قبلكَ لم يصِل إليكَ‏.‏ يا أمير المؤمنين، ولو أنّ ثوبًا من ثيابَ أهل النار عُلًقَ بين السماء والأرض لأذاهم فكيف مَنْ يتَقمصُه‏!‏ ولو أن ذَنُوبًا من صديد أهل النار صُبَّ على ماء الأرض لآجنَه فكيف بمن يتجرعهُ، ولو أنَ حَلقةً من سلاسل جهنم وُضِعَتْ على جبل لذاب فكيف مَنْ سُلِكَ فيها ويُرَدُّ فضلُها على عاتقه‏!‏ وقد قال عمر بن الخطاب‏:‏ ‏"‏لا يُقَوَم أمرَ الناس لا حَصيفُ العقدة، بعيدُ الغِرة، لا يَطَّلِعُ الناسُ منه على عَورةٍ، ولا يُحنِقُ في الحق على برةٍ، ولا تأخُذُهُ في الله لومةُ لائم‏"‏‏.‏

واعلم أن السلطان أربعة‏:‏ أمير يَظْلِفُ نفسَه وعمفالَه، فذلك له أجرُ المجاهد في سبيل الله وصلاتُه سبعونَ ألفَ صلاةٍ ويدُ الله بالرحمة على رأسه تُرفرفُ؛ وأمير رتَعَ ورتَع عُمَالُه، فذاك حمِلُ أثقالَه وأثقالًا مع أثقاله؛ وأمير يَظلِف نَفسَه ويرتَعُ عُمَّالُه، فذاكَ الذي باع آخرتَه بدنيا غيره؛ وأمير يرتَعُ ويَظْلِفُ عُمالَهُ، فذاكَ شر الأكياس‏.‏

واعلم يا أمير المؤمنين أنك قد ابتُلِيتَ بأمر عظيم عُرِضَ على السَّمواتِ والأرض والجِبال فأبينَ أن يحملنه وأشفَقَن منه؛ وقد جاء عن جَدَكَ في تفسير قول اللّه عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يُغَادِرُ صغِيرَة ولا كَبِيرَة إلا أحصاها‏}‏ أنْ الصغيرة التبسمُ، والكبيرةَ الضحكُ‏.‏

وقال‏:‏ فما ظنكم بالكلام وما عملته الأيدي‏!‏ فاعيذك بالله أن يُخيل إليك أن قرابتك برسول اللّه صلى الله عليه وسلم تنفع مع المخالفة لأمره؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا صفية عمة محمد ويا فاطمة بنت محمد استوهبا أنفسكما من الله إني لا أغني عنكما من الله شيئًا‏"‏‏.‏ وكان جدك الأكبر سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إمارةً؛ فقال‏:‏ ‏"‏أي عمٌ نفسٌ تُحِييها خيرٌ لك من إمارة لا تُحصِيها‏"‏، نظرًا لعمه وشفقة عليه أن يليَ فيجورَعن سنته جناحَ بعوضة، فلا يستطيعَ له نفعًا ولا عنه دفعًا‏.‏ هذه نصيحتي إن قبلتَها فلنفسك عملتَ، وإن رددتها فنفسك بَخسْتَ، واللّه الموفق للخير والمعينُ عليه‏.‏

قالى‏:‏ بلى‏!‏ نقبلها ونشكرُ عليها، وبالله نستعينُ‏.‏

مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام

قال خالد‏:‏ وفدتُ عليه فوجدته قد بدأ يشربُ الدهنَ، وذلك في عام باكرَ وَسْمِيُّه وتتابعَ وليه وأخفت الأرضُ زُخرُفَها، فهي كالزرابىً المبثوثة والقُبَاطي المنشورة، وثراها كالكافور لو وُضِعَتْ به بَضْعة لم تُتَرّبْ، وقد ضُربتْ له سرادقاتُ حِبَرٍ بعث بها إليه يوسفُ بن عمر من اليمن تتلألأ كالعقْيان، فأرسل إليَ فدخلت عليه، ولم أزل واقفًا، ثم نظر إليئ كالمستنطِق لي؛ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، أتم الله عليك نعمه ودفع عنك نقمه؛ هذا مَقامٌ زَيَّنَ الله به ذكر وأطاب به نَشْري، إذ أراني وجه أمير المؤمنين، ولا أرى لمقامي هذا شيئًا هو أفضل من أنت أنبه أمير المؤمنين لفضل نعمة الله عليه ليحمَدَ الله على ما أعطاه، ولا شيء أحضرُ من حديث سلف لملك من ملوك العجم إن أذن لي فيه حدّثته به‏.‏ قال‏:‏ هات‏.‏

قلتُ‏:‏ كان رجلِ من ملوك الأعاجم جُمِعَ له فَتاءُ السن وصِحةُ الطباع وسَعَةُ المُلك وكثرة المال، وذلك بالخَوَرْنق، فأشرف يومًا فنظر ما حوله فقال لمن حضره‏:‏ هل علمتم أحدًا أوتي مثل الذي أوتيتُ؛ فقال رجل من بقايا حَمَلة الحجة‏:‏ إن أذِنت لي تكلمت‏.‏ فقال‏:‏ قل‏.‏ فقال‏:‏ أرأيت ما جُمِعَ لك، أشيء هو لك لم يزل ولا يزولُ، أم هو شيء كان لمن قبلك زال عنه وصار إلي وكذلك يَزُولُ عنك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏!‏ بل شيء كان لمن قبلي فزال عنه وصار إلي وكذلك يزول عني قال‏:‏ فسُرِرتَ بشيءِ تذهب لذته وتبقى تَبِعَتُه، تكون فيه قليلًا وتُرْتَهن به طويلًا؛ فبكى وقال‏:‏ أين المهربُ‏؟‏ قال‏:‏ إلى أحد أمرين‏:‏ إما أن تُقيمَ في مُلككَ فتعملَ فيه بطاعة ربكَ، وإما أن تُلقي عليك أمساحًا ثم تلحق بجبل تعبد فيه ربكَ حتى يأتي عليك أجلُكَ؛ قال‏:‏ فما لي إذا فعلت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ حياة لا تموت وشباب لا يهرم وصحة لا تسقم وملك جديد لا يبلى؛ فأتى جبلًا فكان فيه حتى مات‏.‏ وأنشد قول عدي بن زيد‏:‏

وتَفَكَرْ رَب الخوَرْنَقِ إذ أص *** بحَ يومًا وللهُدَى تَـفْـكِـيرُ

سَره حالُه وكـثـرةُ مـا يم *** لكُ والبحرُ مُعْرِضا والسدِيرُ

فارعَوَى قلبُه فقال وما غب *** طةُ حي إلى الممات يصيرُ

فبكى هشام وقامِ ودخل؛ فقال لي حاجبه‏:‏ لقد كسبت نفسَك شرًا، دعاك أمير المؤمنين لِتحدثه وتُلهِيَه وقد عرَفت علتَه فما زِدْتَ على أن نَعيتَ إليه نَفْسَه‏.‏ فأقمتُ أيامًا أتوقًعُ الشر، ثم أتاني حاجبُه فقال‏:‏ قد أمر لك بجائزةٍ وأذِنَ لك في الانصراف‏.‏

مقام محمد بن كعب القرظيّ بين يدي عمر بن عبد العزيز

قال‏:‏ إنما الدنيا سُوقٌ من الأسواق، فمنها خرج الناسُ بما ينفعهم وبما يضرهم، وكم قومٍ قد غرهم مثلُ الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموتُ فاستوعبَهم فخرجوا من الدنيا مُرمِلينَ لم يأخذوا لِما أحبوا من الآخرة عدَةً ولا لما كرهوا جُنَةً، واقتسم ما جمعوا من لم يحمَدْهم وصاروا إلى من لا يعذِرُهم‏.‏ فانظر الذي تُحب أن يكون معك إذا قدِمْتَ، فقدَمه بين يديك حتى تخرجَ إليه؛ وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمْتَ، فابتغ به البدَل حيث يجوز البدلُ، ولا تذهَبنَ إلى سِلْعَةٍ قد بارت على غيرك ترجو جوازَها عنك‏.‏ يا أمير المؤمنين، إفتح الأبوابَ، وسهَل الحجابَ، وانصُر المظلومَ‏.‏

مقام الحسن عند عمر بن هُبَيرة

كتبَ ابن هُبَيرة إلى الحسن وابن سِيرين والشعبيْ فقُدِم بهم عليه، فقال لهم‏:‏ إن أمير المؤمنين يكتب إلي في الأمر، إن فعلته خفتُ على ديني، وإن لم أفعله خفتُ على نفسي‏.‏ فقال له ابن سيرين والشعبيّ قَولًا رَقَّقا فيه، وقال له الحسن‏:‏ يا بن هبيرة، إن الله يمنعُك من يزيدَ، وإن يزيد لا يمنعُكَ من الله‏.‏ يا بن هبيرة، خَفِ الله في يزيد ولا تخفْ يزيدَ في الله‏.‏ يا بن هبيرة، إنه يُوشِكُ أن يبعثَ الله إليك مَلَكًا فيُنزلَكَ عن سريرك إلى سَعَةِ قصرك، ثم يخرجك عن سعةِ قصرك إلى ضِيقِ قبرك، ثم لا يُنْجِيك إلا عملُكَ‏.‏ يا بن هبيرة إنه لاطاعة لمخلوق فِي معصية الخالق‏.‏ فأمر له بأربعة آلاف درهم وأمر لابن سيرين والشعبي بألفين فقالا‏:‏ رَققْنا فَرَقَقَ لنا‏.‏

باب من المواعظ

كلام للحَسن

قال في كلام له‏:‏ أمتكُم آخرُ الأمم وأنتم آخرُ أمتكم، وقد أسْرعَ بخياركم فماذا تنتظرون‏!‏ المعاينة‏؟‏ فكأن قد‏.‏ هيهات هيهات‏!‏ ذهبت الدنيا لحال بمالها، وبقيت الأعمالُ أطواقًا في أعناق بني آدم؛ فيا لها موعظةً لو وافقَتْ من القوب حياةً؛ إنه والله لا أمةَ بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتابَ بعد كتابكم، أنتم تسُوقون الناسَ والساعةُ تسوقكم؛ وإنما يُنتظَر بأولكم أن يلحَقَ آخِركم‏.‏ مَنْ رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد رآه غاديًا رائحًا لم يضح لَبِنة على لَبِنة ولا قصبة على قصبة، رُفِع له علمٌ فشمرَ إليه؛ فالوَحا الوَحا، والنجاءُ النجاء‏.‏ علام تعرجون‏؟‏ أسرعَ بخياركم وأنتم كل يوم تَرذلون‏.‏ لقد صحبتُ أقوامًا كانت صحبتهم قَرةَ العين وجَلَاءَ الصدور، وكانوا من حسناتهم ًان تُردً عليهم أشفقَ منكم من سيئاتكم أن تُعذًبوا عليها، وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهدَ منكم فيما حرم الله عليكم‏.‏ إني أسمع حسيسًا، ولا أرى أنيسًا، ذهب الناسُ، وبقِيتُ في النَسناس، لو تكاشفتم ما تدافنتم؛ تَهَاديتُم الأطباقَ ولم تَهادَوُا النصائحَ‏.‏ يابن آدم، إن دين اللّه ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقَر في القلوب وصَدَقته الأعمالُ‏.‏

كلام لبعض الزهاد

لا تغترّنَ بطول السلامة مِع تضييع الشكر، ولا تُعْمِلنَ نعمةَ الله في معصيته، فإن أقل ما يَجِبُ لمهدِيها ألا تجعلَها ذريعةَ إلى مخالفته‏.‏ واستَدْع شاردَ النّعم بالتوبةِ، واستد‏!‏م الراهنَ بكرم الجِوَارِ، واستفتِح بابَ المزيد بحُسن التوكل‏.‏ أو ما عَلِمْتَ أن المستشعرَ لذُل الخطيئة المخرجَ نفسَه من كُلَف الطاعة نَطِفُ الثَّناءِ، زَمِرُ المروءةِ، قَصيُ المجلس، لا يشاور وهو ذو بَزلَاءَ، ولا يُصَدَرُ وهو جميل الرُّوَاءِ، غامضُ الشخص ضئيلُ الصوتِ نَزْرُ الكلام يتوقع الإسكاتَ عند كلّ كلمةٍ، وهو يَرى فضلَ مزيته وصريحَ لبهِ وحسنَ تَفضِيلِه، ولكن قَطعه سوء ما جنى على نفسه، ولو لم تَطلِعْ عليه عيونُ الخليقة لهجسَت العقولُ بإدهانه‏.‏ وكيف يمتيع سُقوط القدرِ وظَنَ المتفرس مَنْ عُريَ مِن حِلْية التقوى وسُلِبَ طبائعَ الهُدَى‏!‏ ولو لم يَتَغَش ثوب سريرته وقبيحَ ما أجنَ من مخالفة ربه لقطعه العلمُ بقبيح ما قارفَ عن اقتدار ذَوِي الطهارة الكلام وإدلال أهل البراءة في النديّ‏.‏

كلام لغَيْلان

إن التراجعَ في المواعظ يُوشِكُ أن يُذْهِبَ يومَها ويأتي يومُ الصاخة، كلُّ الخلقِ يومئذ مُصِيخ يستمعُ ما يُقالُ له ويُقضَى عليه، وخَشَعَت الأصْواتُ للرحمن فلا تسمَع إلا هَمسًا‏.‏ فاصمُت اليوم عما يُصْمِتكَ يومئذ، وتَعَلَمْ ذلك حتى تعلَمَه، وابتغِه حتى تَجده، وبادِرْ قبل أن تفجأكَ دعوةُ الموت، فإنها عَنيفة إلا بِمَنْ رحم الله، فيُقْحِمكَ في دار تسمعُ فيها الأصوات بالحسرة والويل والثبور، ثم لا يُقالُون ولا يُستعتَبونَ‏.‏ إني رأيتُ قلوب العِباد في الدنيا تخشع لأيسر من هذا وتَقسُو عند هذا، فانظُر إلى نفسك أعبدُ الله أنت أم عَدوُه، فيا رُبً مُتعبّد بلسانه، مُعادٍ له بفعله ذلول في الإنسياق إلى عذاب السعير في أمنية أضغاثِ أحلام يَعبرها بالأمانِي والطنون‏.‏ فاعرِف نفسَكَ وسَلْ عنها الكتابَ المنيرَ، سؤال من يُحِب أن يعلم، وَعلمَ من يُحبّ أن يعمَلَ، فإن الرب جلّ ثناؤه لا يعذِر بالتعذير والتغرير، ولكن يعذِرُ بالجِد والتشمير‏.‏ إكْتس نصيحتي، فإنها كُسوَةُ تقوَى ودليلٌ على مفاتح الخير، ولا تكن كعلماء زمن الهَرْج إن وُعِظُوا أنِفُوا، وإن وَعَظُوا عَنُفُوا‏.‏ واللهّ المستعان‏.‏

كتاب رجل إلى بعض الزّهاد

كتب إليه‏:‏ إنّ لي نفسًا تُحِبُّ الدَّعةَ، وقلبًا يألف اللذاتِ، وهمةً تَسْتثقِلُ الطاعةَ، وقد وهَّمتُ نفسي الآفات، وحَذَّرتُ قلبي الموت، وزجرتُ هِمَتي عن التقصير؛ فلم أرضَ ما رجع إليَّ منهن، فاهدِ لي - رحمك الله - ما أستعينُ به على ما شكوتُ إليك؛ فقد خفتُ الموت قبلَ الاستعداد‏.‏

فكتب إليه‏:‏ كثر تعجّبي من قلبَ يألَفُ الذنبَ، ونفسٍ تطمئنُ إلى البقاء، والساعاتُ تَنقُلُنا والأيامُ تَطوِي أعمارَناة فكيف يألفُ قلبٌ ما لا ثباتَ له، وكيف تنام عينٌ لا تحرِي لعلها لا تطرِفُ بعد رَقدَتها إلا بين يدي اللّه‏!‏ والسلام‏.‏

كتابة رجل من العبّاد إلى صديق له وجواب صديقه عليه

إني لمّا رأيتُ الناسَ في اليقين متفقين، وفي العمل متفاوتين، ورأيت الحجةَ واجبة، فلم أر في يقينٍ قَصَرَ بصاحبه عن عملٍ حجةٍ، ولا في عملٍ كان بغيرِ يقينٍ منفعةً؛ ورأيتُ من تقصيرِ أنفسنا في السعي لمرجوّ ما وُعِدَتْ والهرَبِ من مَخُوف ما حُذَرَتْ، حتى أسلمها ذلك إلى أن ضَعُفَتْ منها النيةُ وقلّ التحفّظُ واستولى عليها السَّقَط والإغفالُ واشتعَلَتْ منها الشهوةُ، ودعاها ذلك إلى التمرّغ في فضائح اللّذاتِ، وهي تعلم أن عاقبتَها الندمُ، وثمرتَها العقوبة، ومصيرَها إلى النار إن لم يعفً اللُّه - عجبتُ لعمل امرئٍ كيف لا يشبِهُ يقينَه، ولعلم موقنٍ كيف لا يرتبط رجاءه وخوفه على ربه، حتى لا يتكون الرغبة منه إلا إليه والرهبة منه إلا له‏.‏ وزادني عجبًا أنّني رأيت طالب الدنيا أجدَّ من طالب الآخرة، وخائفَها أتعبَ من خائف الآخرةِ، وهو يعلم يقينًا أنه رُب مطلوبٍ في الدنيا قد صار حين نيلَ حتفًا لطالبه، وأنه رُبَّ مَخُوفٍ فيها قد لَحِقَ كَرْهًا بالهارب منه فصار حظًا له، وأن المطلوبَ إليه من أهلها ضعيفٌ عن نفسه محتاجٌ إلى ربه مَملوكٌ عليه مالُه مخزونةٌ عنه قدرتُه‏.‏ واعلم أن جِمَاعَ ما يسعى له الطالبُ وَيهرُبُ منه الهاربُ أمران‏:‏ أحدهما أجلُه، والآخر رزقُه، وكلاهما بعينه شاهد على أنه لا يملِكُه إلا الذي خلقه‏.‏ فلم أدْر حين صار هذا اليقينِ في موضع الإيمان يقينًا لا شك فيه، كيف صار في موضع العمل شبيهاَ بالشك الذي لا يقينَ فيه‏!‏ وكيف، حين اختُلِفَ في أمر الآخرة، لم يُخْتَلْف في أمر الدنيا، فيكون خائفُ الآخرة لربه كخائف الدنيا لسلطانه صبرًا له على تجشم المكروه، وتجرّعًا منه لغُصَص الغيظ، واحتمالًا منه لفادح النّصَب، وعملأ له بالسخرة، وتحفظًا من أن يُضمِرَ له على غش أو يَهًم له بخلاف، ولو فعل ذلك ما علمه منه حتى يَظهَرَ له بقولٍ أو فعل؛ ولو علمه ما

قَدَر له على قطع أجل لم يَفْنَ ورزقٍ لم ينفَد؛ فإن ابتُلِيَ بالسخَطِ من سلطانه فكيف حزنه ووحشتُه، وإن أنِسَ منه رِضًا عنه فكيف سُرورُه واختيالُه؛ة فإن قارفَ ذنبًا إليه فكيف تضعضه واستخذاؤه، فإن ندبه لأمر فكيف خِفَّته ونشاطه‏!‏ وإن نهاه عنه فكيف حَذرُه واتّعاظُه وهو يعلم أن خالِقَه ورازقَه يعلَمُ سِرَّه وجهرَه، ويراه في متقلبه ومثواه، ويُعاينُه في فضائحه وعورته، فلم يَزعْهُ عنها حياء منه ولا تقيةٌ له، قد أمره فلم يأتمر، وزجَره فلم يزدجر، وحَذَره فلم يحذر؛ ووعده فلم يرغَبْ، وأعطاه فلم يشكر، وستره فلم يزددْ بالستر إلا تعرضا للفضائح، وكفاه فلم يقنع بالكفاية، وضَمِنَ له في رزقه ما هو في طَلَبِه مُشيحٌ، ويقَّظَه من أجله لما هو عنه لاه وفرغه من العمل لما هو عنه بغيره مشغول؛ فسبحان من وَسِعَ ذلك حلمه وتغمده من عباده عفوة؛ ولو شاء ما فعلوه؛ ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسْألُونَ‏.‏

فأجابه‏:‏ إني رأيتُ اللّه تبارك وتعالى جعلَ اليقينَ بأعظم المواضع في أمر الدنيا والدين، فهو غايةُ العالم وبصرِ البصير وفهم السامع، ليس كسائر الأشياء التي تدخلها الشبهاتُ ويَجرحها الإغفال ويشوبها الوَهْنُ؛ وذلك أن اللّه تعالى جعل مَغرِسَه القلبَ؛ وأغصانه العملَ، وثمرته الثوابَ‏.‏ وإنما جَعَلَ القلبَ لليقين مَغرِسًا، لأنه جعل الخمسَ الجوالب لعلم الأشياء كلّها إلى القلب‏:‏ السمعَ والبصرَ والمجسةَ والمَذَاقَةَ والاسترواحَ‏.‏ فإذا صارت الأشياء إليه ميز بينها العقل ثم صارت بأجمعها إلى اليقين، فكان هو المثبتَ لها والموجه كلّ واحدٍ منهن جهتَها‏.‏ ولولا معرفة القلب بالعقل الذي جعله الله لذلك، لم يفرُقْ سمعٌ بين صوتينِ مختلفينِ، ولا بصر بين صورتين متقاربتين، ولا مجسة بين شيئين غير متشابهين‏.‏ ولليقين بعد ذلك منزلة يُعرَفُ بها الضارّ والنافع في العاقبة عند اللّه تعالى‏.‏ فلما صار اليقينِ في التشبيه كالشجرة النابتة في القلب أغصانُها العملُ وثمرتها الثوابُ، أخبر ذلك أنه قد تكون الشجرة نابتة الأصل بلا أغصان كما يكون اليقين نابتًا بلا عمل، وأنه كما لا تكون الأغصان نابتة بلا أصل، فكذلك لا يكون العمل نافعًا إلا بيقين؛ وكما أنه لا تُخلِفً الثمرةُ في الطيب والكثرةِ إذا كان الأصل نابتًا والأغصان ملتفَة، فكذلك يكون الثواب لمن صح يقينه وحَسُنَ عمله‏.‏ وقد تعرِض للأعمال عوارضُ من العِلل‏:‏ منهنّ الأملُ المثبطُ، والنفسُ الأمارةُ بالسوء، والهوى المزين للباطل، والشيطانُ الجاري من ابن آدم مجرَى الدم، يضررن بالعمل والثواب، ولا يبلغِ ضررُهن اليقين، فيكون ذلك كبعض ما يَعرِضُ للشجرة من عوارض الأفات فَتذْوِي أغصانها وتنثًر ورقَها وتَمنع ثمرتَها والأصل ثابت؛ فإذا تجلّت الآفةُ عادت إلى حال صلاحها‏.‏ فماذا يُعجبك من عمل امرئ لا يشبه يقينه، وأن يقينَه لا يرتبط رجاءه وخوفه على ربه‏.‏ فإنما العجب من خلاف ذلك؛ ولَعَمْري لو أشبهَ عملُ امرئ يقينَه فكان في خوفه ورجائه كالمعايِن لِمَا يُعايِنه بقلبه من الوقوف بين يدي الله والنظر إلى ما وعَد وأوعَدَ، لكان ما يعتلج على قلبه من خطرات الخوف شاغلًا له عن الرجاء، حتىِ يأتَي على نفسه أوّلَ لحظة ينظر بها إلى النار خوفًا لها أو إلى الجنة أسفًا عليها إذا حُرِمَها، وإذاَ لكان الموقن بالبعث بقلبه كالمعاين له يوم القيامة وكيف يستطيع من كان كذلك أن يعقلَ فضلًا عن أن يعملَ‏!‏ وأما قولك‏:‏ ‏"‏كيف لم يكن خائف الآخرة لربّه كخائف الدنيا لسلطانه‏"‏، فإن الله عزّ وجل خلق الإنسان ضعيفًا وجعله عجولًا، فهو لضعفه موكًل بخوف الأقرب فالأقرب مما يكره، وهو بعجلته موكل بحبّ الأعجل فالأعجل مما يشتهي؛ وزاده حِرصًا على المخلِص من المكروه وطلبًا للمحبوب حاجتُه إلى الاستمتاع بمتاع الدنيا الذي لولا ما طُبعَ عليه القلبُ من حبه وسَهُل على المخلوقين من طلبه، لما انتفع بالدنيا مُنتفع ولا عاض فيها عائشٌ‏.‏ ومع ذلك إن مكاره الدنيا ومحابها عند ابن آدم على وجهين، أما المكروه فيقول فيه‏:‏ عسى أن أكون ابتليتُ به لذنبِ سلف منْي، وأما المحبوب فيقول فيه‏:‏ عسى أن أكون رُزِقتُه بحسنةٍ كانت مني فهو ثواب عُجلَ، وهو مع هذا يعلم أن حلومَ المخلوقين إلى الضيق، وأن قلوبَ أكثر مُسَلطِيهم إلى القسوة، وأن العيبَ عنهم مستور، فليس يلتمس ملتمسهم إلا علمَ الظاهر ولا يضع إلا به، ولا يلتفتُ من امرئ إلى صلاح سريرته عون صلاح علانيته‏.‏ ومن طباع الإنسان اللؤمُ، فليس يَرضَى إذا خِيفَ إلا بأن يُذِلّ، ولا إذا رُجِيَ إلا بأن يُتعِبَ، ولا إذا غَضِبَ إلا بأن يُخضَعَ له، ولا إذا أمرَ إلا بأن يُنفًذَ أمرُه، ولا ينتفع المتشفعُ بإحسانه عنده إذا أساء ولا المطيعُ بكثرة طاعته في المعصية الواحدة إذا عصى، ولا يرَى الثوابَ لازمًا له ولا العقابَ محجورًا عليه، فإن عاقب لم يَستَبْقِ، وإن غَضِبَ لم يتَثبتْ، وإن أساء لم يَعتذِر، وإن أذنبَ إليه مذنب لم يَغفرة واللطيفُ الخبير يعلمُ السريرةَ فيغفِرُ بها العلانيةَ، ويمحو بالحسنة عشرًا من السيئات، ويصفحُ بتوبةِ الساعة عن ذنوب مائة عام، إن دُعِيَ أجاب، وإن اسْتُغفِر غَفَر، وإن اطيعَ شكر، وإن عُصِيَ عَفَا، ؤمِن وراءِ عبده بعد هذا كله ثلاث‏:‏ رحمتُه التى وسعت كلً شيء، وشهادةُ الحق التي لا يزكو إلا بها عمل،

وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مثبَتٌ لليقين باسطٌ للأمل مُثبطٌ عن العمل إلا مَنْ شاء الله وقليل ما همْ‏.‏ فلا تَحمِل نَطَفَ عملك على صحة يقينك فتُوهِنَ إيمانَك، ولا تُرخَصْ لنفسك في مُقارفة الذنوب، فيكون يقينُك خصمًا لك وحُجّةً عليك؛ وكَذّب أملَك وجاهِد شهوتَك، فإنهما داءاك المخوفان على دينك المعتونانِ على هَلكتكَ‏.‏ وأسأل الله الغنيمة لنا ولك‏.‏عة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مثبَتٌ لليقين باسطٌ للأمل مُثبطٌ عن العمل إلا مَنْ شاء الله وقليل ما همْ‏.‏ فلا تَحمِل نَطَفَ عملك على صحة يقينك فتُوهِنَ إيمانَك، ولا تُرخَصْ لنفسك في مُقارفة الذنوب، فيكون يقينُك خصمًا لك وحُجّةً عليك؛ وكَذّب أملَك وجاهِد شهوتَك، فإنهما داءاك المخوفان على دينك المعتونانِ على هَلكتكَ‏.‏ وأسأل الله الغنيمة لنا ولك‏.‏

موعظة مستعملة

وكيع عن مِسْعَر عن زيد العمي عن عون بن عبد الله قال‏:‏ كان أهل الخير ِيكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات‏:‏ مَن عَمِلَ لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلحَ ما بينه وبين الله أصلح اللّه ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرتَه أصلح الله له علانيتَه‏.‏

موعظة لعمرو بن عتبة

العتبيّ عن أبيه عن أبي خالد عن أبيه عن عمرو بن عتبة قال‏:‏ كان أبونا لا يرفعُ المواعظَ عن أسماعنا، فأراد مرة سفرًا فقال‏:‏ يا بَنِي تألَفُوا النعم بحسن مُجاوَرِتها، والتمِسُوا المزيدَ فيها بالشكر عليها، واعلموا أن النفوسَ أقبلُ شيء لما أعطيت وأعْطى شيءٍ لما سئِلَتْ، فاحمِلوها على مطيَّةٍ لا تُبطِئ إذا رُكِبَتْ، ولا تُسَبق وإن تُقُدمت، عليها نجا مَنْ هرب من النار‏!‏ وأدرك مَنْ سابقَ إلى الجنة؛ فقال الأصاغرُ‏:‏ يا أبانا ما هذه المطيةً‏؟‏ قال‏:‏ التوبة‏.‏

صفات الزهَّاد

لعيسى عليه السلام حدثني عبد الرحمن العبدي عن يحيى بن سعد السعديّ قال‏:‏ سأل الحواريّون عيسى عليه السلام فقالوا‏:‏ يا رُوحَ الله مَنْ أولياءُ اللّه‏.‏ قال‏:‏ هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناسُ إلى ظاهرها، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناسُ عاجلها، فأماتوا منها ما خَشُوا أن يُميتَهم وتركوا منها ما علموا أن سيتركُهُم، فصار استكثارهم منها استقلالًا، وفرحُهم بما أصابوا منها حزنًا، فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفيعها بغير الحق وضَعوه، فهم أعداء ما سالمَ الناسُ وسِلْمُ ما عادَوْا، خَلُقَت الدنيا عندهم فليسَ يعمرونها، وماتت في قُلوبهم فليس يُحبونَها، يهدمُونها ويبنون بها آخرتهم، ويبيعونها ويشترون بها ما يبقى لهم‏؟‏ ونظروا إلى أهلها صَرْعَى قد خلت منهم المَثُلاتُ فأحيَوْا ذكر الموت وأماتوا ذكرَ الحياة، بهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، وبهم علِمَ الكتاب وبه عَمِلوا، لا يرون نائلًا ما نالوا، ولا أمنًا دون ما يرجون، ولا خوفًا دون ما يحذرون‏.‏

بين عمر بن عبد العزيز وشاب زاهد في الدنيا وحدثني أيضًا عن أنس بن مصلح عن أبي سعيد المصّيصي‏:‏ إن قومًا دخلوا على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرض، فإذا فيهم شاب ذابلٌ ناحلٌ، فقال له عمر‏:‏ يا فَتَى ما الذي بلغ بك ما أرَى‏؟‏ قال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمراض وأسقام‏.‏ فقال عمر‏:‏ لتَصْدُقَننَّي؛ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين ذقتُ حلاوة الدنيا فوجدتُها مرة فصغُر في عيني زهرتها وحلاوتُها، واستوى عندي حجرُها وذهبُها، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وإلى الناس يُساقُون إلى الجنة وإلى النار، فأظمأت لذلك نهاري وأسهرت له ليلي، وقليلٌ حقير كل ما أنا فيه في جنب ثواب الله وجنب عقابه‏.‏

للنيي صلى الله عليه وسلم بلغني عن إسحاق بن سليمان عن أخيه عن الفياض عن زبيد اليامي عن معاذ بن جبل‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنّ الله يحب الأخفياءَ الأتقياءَ الأبرياءَ الذي إذا غابوا لم يُفتَقدوا، وإذا حَضَرُوا لم يُعرفوا، قلوبُهم مصابيحُ الهدى يخرجون من كل غبراء مُظلِمَة‏"‏‏.‏

لعلي عليه السلام في التعلُم وعن وكيع عن عمرو بن منبه عن أوفَى بن دلهم قال‏:‏

قال علي عليه السلام‏:‏ تعلّموا العلمَ تُعرَفُوا به واعمَلُوا به تكونوا من أهله، فإنه يأتي من بعدكم زمان يُنكِر فيه الحق تِسعةُ أعشِرَائهم لا ينجو فيه إلا كل نُوَمَةٍ، يعني الميتَ الذكر، أولئك أئمة الهدى ومصابيحُ العلم ليسوا بالعُجْل المذايِيع البُذُرِ‏.‏

لعلي أيضًا في الدنيا والأخرة وقال علي عليه السلام أيضًا‏:‏ إن الدنيا قد ارتحلت مُدبِرةً وإنّ الآخرةَ قد ارتحلَتْ مُقْبِلةٍ، ولكل واحدة منهما بَنُون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألَا إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطًا والترابَ فِرَاشًا والماء طِيبًا‏.‏ ألَا مَن اشتاق إلى الجنة سَلَا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجَع عن الحُرمات، ومَنْ زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات أي إن لله عبادًا كمن رأى أهلَ الجنة في الجنة مخلَّدين وأهلِ النار في النار مُعَذّبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسُهم عفيفة، وحوائجهم خَفِيفة، صبَرُوا أيامًا قليلةً لعقبى راحة طويلة؛ إما بالليل فصافّو أقدامِهم، تجري دموعُهم على خدودهم، يجأرًون إلى اللّه‏:‏ ربنا ربنا يطلبُون فَكَاكَ رِقَابهم؛ وأما بالنهار فحلماءُ عُلمَاءُ برَرةٌ أتقياء كأنهم القِدَاحُ ينظُر إليهمُ الناظر فيقول‏:‏ مَرْضَى، وما بالقوم من مَرَضٍ، ويقول‏:‏ خُولِطُوا، ولقد خالط القومَ أمرٌ عظيم‏.‏

لعون بن عبدالله بن عتبة حدّثنا إسحاق المعروفُ بابن رَاهَوَيْهِ أن عون بن عبد اللّه بن عتبة كان يقول‏:‏ يا بُني كن كمن نأى به عمن نأى عنه يقينٌ ونزاهة، ودنُوُّه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس نأيه تكبرًا عظمة، ولا دنوه بِخَدْع ولا خِلَابَةٍ، يَقتدي بمن قبله، وهو إمامُ من بعده، لا يعجل فيمن رابه ويعفو إذا تبين له، ينقص في الذي له ويزيد في الذي عليه، لا يعزُبُ حِلمُه ولا يحضُرُ جهله؛ الخير منه مأمول والشرّ منه مأمون، إن رُجِيَ خاف ما يقولونَ واستغفرَ لما لا يعلمون، إن عصته نفسُه فيما كرِهَتْ لم يُطِعها فيما أحبت، يَصْمُتُ ليسلَمَ ويخلو ليغنَم وينطِقُ ليفْهَمَ وُيخالطُ لِيعلم‏.‏ ولا تكن يا بُنيّ ممن يُعْجَبُ باليقين من نفسه فيما ذهبَ وينسَى اليقينَ فيما رجا وطلبَ، يقول فيما ذهب‏:‏ لو قدر شيء كان، ويقول فيما بقي‏:‏ ابتغ أيها الإنسانُ؛ تغلبه نفسُه على ما يظنّ يغلبُها على ما يستيقِنُ، طال عليه الأملُ ففترَ، وطال عليه الأمدُ فاغترّ‏؟‏ واعذِرَ إليه فيما عمر وليس فيما عُمَر بمعذِر، عُفَر فيما يتذكر فيه من تذكّر، فهو من الذنب والنعمة مُوقَر، إن أعطي لم يشكر، وإن مُنِعَ لم يَعذِرْ، يُحب الصالحينَ ولا يعمل عملَهم ويُبغِضُ المسيئين وهو أحدُهم؛ يرجو الأجرَ في البغض على ظنه ولا يخشَى اليقينَ من نفسه، يخشى الخلقَ في ربه ولايخشى الرب في خلقه، يَعوذ بالله ممن هو فوقه، ولا يريد أن يُعيذَ الله منه مَنْ هو تحته، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ويرجو لنفسه بأيسرَ من عمله، يُبصر العورةَ من غيره ويُغفِلُها من نفسه وإن صلى اعترض، وإن ركع رَبض، وإن سجد نَقَر، وإن جَلس شَعَرَ، وإن سألَ ألحفَ، وإن سئل سَوَّفَ، وإن حَدّثَ أخلفَ، وإن وُعِظَ كَلَح، وإن مُدِحَ فَرِحَ، يَحسُدُ أن يُفْضَلَ، ويزهَدُ أن يَفضُل، إن أفِيضَ في الخير بَرِمَ وضَعُفَ واستسلَم وقال‏:‏ الصمتُ حُكْم، وهذا ما ليس لي به عِلم؛ وإن أفِيضَ في الشرّ قال‏:‏ يُحسَبُ بي عِيُّ، فتكلّم يجمَع بين الأراوِي والنعام وبين الخال والعمّ ولاءَمَ ما لا يتلاءم؛ يتعلًم للرياء، ويتفقَّه للرياء، ويبادر ما يفنَى، ويُواكِلُ ما يبقى‏.‏

للحسن بن علي حدثني محمد بن داود عن أبي شُرَيح الخُوَارَزْمِي قال‏:‏ سمعت أبا الرّبيع الأعرج عمرو بن سليمان يقول‏:‏

قال الحسنُ بن علي‏:‏ ألا أخبركم عن صديق كان لي من أعظم الناس في عيني، وكان رأسً ما عَظُم به في عيني صِغَرَ الدنيا في عينه‏.‏ كان خارجًا من سلطانِ بطنه فلا يتَشَهَى ما لا يحلّ ولا يكنِزُ إذا وجد، وكان خارجًا من سلطان الجهالة فلا يَمُد يدًا إلا على ثقةٍ لمنفعة، كان لا يتشَكَى ولا يتبرَّمُ، كان أكثرَ دهرِه صامتًا، فإذا قال بَذَ القائلين، كان ضعيفًا مستضعَفًا فإذا جاء الجِد فهو الليث عاديًا، كان إذا جامع العلماء على أن يسمع أحرصَ منه على أن يقولَ، كان إذا غُلِبَ على الكلام لم يُغلَب على السكوت، كان لا يقول ما يفعل ويفعلَ ما لا يقول، كان إذا عَرَض له أمران لا يدري أيّهما أقربُ إلى الحق نَظَر أقرَبهما من هواه فخالفه، كان لا يلومُ أحدًا على ما قد يَقَع العذرُ في مثله‏.‏ زادني غيره‏:‏ كان لا يقول حتى يرى قاضيًا عَدْلًا وشهودًا عدولًا‏.‏

من كلام علي بن أبي طالب لكُميل بن زياد وفي كلام علي رضي اللّه عنه لكُمَيْل حين ذكر حُجَجَ اللهّ في الأرض فقال‏:‏ هَجَم بهم لعلمُ على حقائق الأمور، فباشروا رَوْحَ اليقين، واستلانوا ما استَوْعر المُتْرَفُون، وأنِسوا بما ستَوْحش منه الجاهلون، وصَحِبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلّقة بالمَحَلّ الأعلى؛ هاه سوقًا إلى رؤيتهم‏.‏

بين رجل ويونس بن عبيد في الحَسَن بن علي قال رجل ليونس بن عُبَيد‏:‏ تَعْلم أحدًا يعمل بعمل الحسن‏.‏ قال‏:‏ والله ما أعرِف أحدًا يقول بقوله فكيف يعمل بعمله‏!‏ قيل‏:‏ فصِفْه لنا‏.‏ قال‏:‏ كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دَفْن حَمِيه وإذا جلس فكأنه أسيرٌ أمِر بضَرْب عُنُقه، وإذا ذُكِرت النارُ فكأنها لم تُخْلَق إلّا له‏.‏

لشقيق بن سلمة عن قرّاء زمانه حدّثنا حسين بن حسن المَرْوَزيّ قال‏:‏ حدّثنا عبد الله بن المبارك قال‏:‏ أخبرنا مَعْمَر الأعمش عن شقيق بن سَلَمة قال‏:‏ ما مَثَلُ قُرّاء هذا الزمان إلا كمثل غنم ضوائنَ ذاتِ صوف عجافٍ أكلتْ من الحَمْض وشَرِبت من الماء حتى انتفخت خواصرها، فمرّتْ برجل فأعجبته؛ْ فقام إليه فعَبَط منها شاةً فإذا هي لا تُنْقى، ثم عبط أخرى فإذا هي كذلك، فقال‏:‏ افٍّ لك؛ سائر اليوم‏.‏

للحسن حدّثنا حسين قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن المبارك قال‏:‏ أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار الحسن قال‏:‏ إذا شئتَ لَقِيتَه أبيضَ بضًا حديد النظر مَيتَ القلب والعمل، أنت أبصرً به نفسه؛ تَرَى أبدانًا ولا قلوب، وتسمع الصوتَ ولا أنس، أخصبُ ألسَنةٍ وأجدبُ قلوب‏.‏

لسفيان في الزهد حدثني أبو سهل عن علي بن محمد عن وكيع قال‏:‏ قال سُفْيان‏:‏ الزهدُ في الدنيا قصرِ الأمل، ليس بأكل الغَلِيظ ولا لُبْس الغَلِيظ‏.‏

مثله في الزهد ليوسف بن أسباط قال‏:‏ وقال يوسف بن أسباط‏:‏ لو أنّ رجلًا في ترك الدنيا مثلُ أبي ذرّ وأبي الدَرْداء وسَلْمان، ما قلنا له‏:‏ إنك زاهد، لأن الزهد لا يكون إلا على ترك الحلال المَحْض، والحلال المحض لا نعرِفه اليوم، وإنما اللنيا حلالٌ وحرامٌ وشُبُهات‏؟‏ فالحلالُ حسابٌ، والحرام عذاد والشبهات عتاث ث فأنزِل الدنيا منزلةَ المَيْتة خُذْ منها ما يُقِيمك، فإن كان ذلك حلالًا كنت زاهدًا فيها، وإن كان حرامًا لم تكن أخذتَ منها إلا ما يُقِيمك كما يأخذ المضطر من الميتة، وإن كان عتابٌ كان العتابُ يسيرًا‏.‏

ولبعضهم في الزهد ومثله قولُ بعضهم‏:‏ ليس الزهد بترك كلّ الدنيا، ولكن الزهدَ التهاونُ بها وأخذُ البلاغ منها‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَرَوْة بِثَمَنٍ بَخْسٍ درَاهِمَ مَعْدُودةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزاهِدِينَ‏}‏، فأخبر أنهم زَهدوا فيه وقد أخذوا له ثمنًا‏.‏

قال أبو سليمان الدارانيّ‏:‏ الرضا عن الله والرحمةُ للخَلْق درجةُ المرسَلين، وما تعرف الملائكةُ المقرّبون حدّ الرضا‏.‏ وقال‏:‏ أرجو أن أكون قد نِلتُ من الرضا طَرَفًا، لو أنه تبارك وتعالى أدخلني النار كنتُ بذلك راضيًا‏.‏ قال‏:‏ وليس الحمد له أن تحمدَه بلسانك وقلبُك مُقتصِرٌ على المصيبة، ولكن هو أن تحمده بلسانك وقلبُك مسلّمٌ راضٍ‏.‏

بين ابن أي الحواري وأي سليمان الداراني

وقال ابن أبي الحَوَاريّ‏:‏ قلت لأبي سليمان‏:‏ بلغني في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إلاَ مَنْ أتَى الله بِقَلْب سَلِيمٍ‏}‏ أنه الذي يلقَى ربَّه وليس فيه أحدٌ غيرُه، فبكى وقال‏:‏ ما سمعتُ مذ ثلاثين سنة أحسًنَ من هذا‏.‏ وقال‏:‏ كل قلب فيه شِرْكٌ فهو ساقط‏.‏ قال‏:‏ وما في الأرض أحد أجِدُ له محبةً ولكن رحمة‏.‏ وقال‏:‏ ينبغي للخوف أن يكون أغلبَ على الرجاء، فإذا غَلَب الرجاءُ على الخوف فَسَد القلبُ‏.‏

للفضيل بن عياض في أصل الزهد وقال الفُضَيْل بن عياض‏:‏ أصل الزهد الرضا عن الله‏.‏

الحسين بن علي عن عبد الملك بن أبجر‏:‏ أن رجلًا يُكنى أبا سعيد كان يقول‏:‏ والله ما رأيتُ قُراءَ زمان قط أغلظَ رقابًا ولا أدق ثِيابًا ولا آكلَ لمُخ العيش منكم‏.‏

لمطرف أبو أسامة عن حمّاد بن زيد عن إسحاق بن سويد قال‏:‏ قال مطرف‏:‏ انظروا قومًا إذا ذُكِرُوا بالقراءة فلا تكونوا منهم، وقومًا إذا ذُكِرُوا ذُكروا بالفُجور فلا تكونوا منهم، كونوا بين هؤلاء وبين هؤلاء‏.‏

وصية ابن محيريز لرجل أوصى ابن مُحَيْرِيز رجلًا فقال‏:‏ إن استطعتَ أن تعرِف ولا تُعْرَف وتَسأل ولا تُسْأل وتمشي ولا يُمْشَى إليك، فافعل‏.‏

لأيوب قال أيّوب‏:‏ ما أحبَّ اللهّ عبدًا إلا أحب ألاَ يُشْعَر به‏.‏

بين أبي عائذ الأزدي وشريح بن عبيد إسحاق بن سليمان عن جرير بن عثمان قال‏:‏ جاء شُرَيح بن عبيد إلى أبي عائد الأزْدي فقال‏:‏ يا أبا عبد اللهّ، لو أحييتَ سنةً قد تركها الناس‏:‏ إرخاءَ طَرَف العِمامة من الجانب الأيسر‏!‏ قال‏:‏ يا بن أخي، ما كان أحسنها‏!‏ تركها الناس فتركناها، ما أحِب أن أعرَفَ في خيرٍ ولا شرّ‏.‏